الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال جعفر: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات البدعة إلى نور السنة، ومن ظلمات النفوس إلى نور القلوب، وقال أبو بكر بن طاهر: من ظلمات الظن إلى نور الحقيقة وقيل غير ذلك {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} بتيسيره بهبة الاستعداد وتهيئة أسباب الخروج إلى الفعل {إلى صِرَاطِ العزيز} الذي يقهر الظلمة بالنور.{الحميد} [إبراهيم: 1] بكمال ذاته أو بما يهب لعباده المستعدين من الفضائل والعلوم أو من الوجود الباقي أو نحو ذلك {وَوَيْلٌ للكافرين} المحجوبين {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2] وهو عذاب الحرمان {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا} الحسية والصورية {على الآخرة} العقلية والمعنوية {وَيَصُدُّونَ} المريدين {عَن سَبِيلِ الله} طريقه الموصل إليه سبحانه: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [إبراهيم: 3] انحرافًا مع استقامتها {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ} أي بكلام يناسب حالهم واستعدادهم وقدر عقولهم والألم يفهموا فلا يحصل البيان، وعن عمر رضي الله تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ وفي أسرار التأويل لكل نبي وصديق اصطلاح في كلام المعرفة وطريق المحبة يخاطب به من يعرفه من أهل السلوك، وعلى هذا لا ينبغي للصوفي أن يخاطب العامة باصطلاح الصوفية لأنهم لا يعرفونه، وخطابهم بذلك مثل خطاب العربي بالعجمية أو العجمى بالعربية، ومنشأ ضلال كثير من الناس الناظرين في كتب القوم جهلهم باصطلاحاتهم فلا ينبغي للجاهل بذلك النظر فيها لأنها تأخذ بيده إلى الكفر الصريح بل توقعه في هوة كفر، كفر أبي جهل إيمان بالنسبة إليه، ومن هنا صدر الأمر السلطاني إذ كان الشرع معتنى به بالنهي عن مطالعة كتب الشيخ الأكبر قدس سره ومن انخرط في سلكه {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء} إضلاله لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} [إبراهيم: 4] هدايته ممن بقي على استعداده أو لم يرسخ فيه تلك الهيآت والاعتقادات {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} وهي أيام وصاله سبحانه حين كشف لعباده سجف الربوبية في حضرة قدسية وأدناهم إلى جنابه ومن عليهم بلذيذ من خطابه:
وما أحسن ما قيل: وأمره عليه السلام بتذكير ذلك لبثور غرامهم ويأخذ بهم نحو الحبيب هيامهم فقد قيل: وجوز أن يراد بأيام الله تعالى أيام تجليه جل جلاله بصفة الجلال وتذكيرهم بذلك ليخافوا فيمتثلوا {إِنَّ في ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] أي لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ الصبر والشكر على ما قيل مقامان للسالك قبل الوصول {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] قال الجوزجاني: أي لئن شكرتم الإحسان لأزيدنكم المعرفة ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس، ويعم ذلك كله ما قيل: لئن شكرتم نعمة لأزيدنكم نعمة خيرًا منها، وللشكر مراتب وأعلا مراتبه الإقرار بالعجز عنه.وفي بعض الآثار أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك؟ فأوحى الله تعالى إليه الآن شكرتني يا داود، وقال حمدون: شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليًا {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ} أي أنه سبحانه لا شك فيه لأنه الظاهر في الآفاق والأنفس {فَاطِرَ السموات والأرض} موجدهما ومظهرهما من كتم العدم {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} ليستر بنوره سبحانه ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكون فيه عند جلية اليقين {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة {قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [إبراهيم: 10] منعهم ذلك عن اتباع الرسل عليهم السلام {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} سلموا لهم المشاركة في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة ما من الله تعالى به عليهم مما يرشحهم لذلك، وكثيرًا ما يقول المنكرون في حق أجلة المشايخ مثل ما قال هؤلاء الكفرة في حق رسلهم والجواب نحو هذا الجواب {وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [إبراهيم: 11] جواب عن قول أولئك: {فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ} [إبراهيم: 10] ويقال نحو ذلك للمنكرين الطالبين من الولي الكرامة تعنتًا ولجاجًا {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [إبراهيم: 11] لأن الإيمان يقتضي التوكل وهو الخمود تحت الموارد، وفسره بعضهم بأنه طرح القلب في الربوبية والبدن في العبودية، فالمتوكل لا يريد إلا ما يريده الله تعالى، ومن هنا قيل: إن الكامل لا يحب إظهار الكرامة، وفي المسألة تفصيل عندهم {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا} ذكر بعضهم أن البروز متعدد فبروز عند القيامة الصغرى بموت الجسد.وبروز عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي وهو الخروج عن حجاب صفات النفس إلى عرصة القلب.وبروز عند القيامة الكبرى وهو الخروج عن حجاب الآنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية، وإن حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار إليه بقوله تعالى: {فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا} [إبراهيم: 21] الخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء وفسروا الشيطان بالوهم؛ وقد يفسرونه في بعض المواضع بالنفس الأمارة.والقول المقصوص عنه في الآية عند ظهور سلطان الحق، وبعضهم حمل الشيطان هنا على الشيطان المعروف عند أهل الشرع وذكر أن قوله: {فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] دليل بقائه على الشرك حيث رأى الغير في البين وما ثم غير الله تعالى، وإلى هذا يشير كلام الواسطي حيث قال: من لام نفسه فقد أشرك، ويخالفه قول محمد بن حامد: النفس محل كل لائمة فمن لم يلم نفسه على الدوام ورضي عنها في حال من الأحوال فقد أهلكها، ويأباه ما صح في الحديث القدسي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فتأمل.{وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} [إبراهيم: 23] لم يذكر من يحييهم، وقد ذكروا أن منهم من يحييهم ربهم وهم أهل الصفة والقربة، ومنهم من يحييهم الملائكة وهم أهل الطاعات والدرجات، وما أطيب سلام المحبوب على محبه وما ألذه على قلبه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا في السماء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} [إبراهيم: 24، 25] إشارة كما قيل إلى كلمة التوحيد التي غرسها الحق في أرض بساتين الأرواح وجعل سبحانه أصلها هناك ثابتًا بالتوفيق وفرعها في سماء القربة وسقيها من سواقي العناية وساقها المعرفة وأغصانها المحبة وأوراقها الشوق وحارسها الرعاية تؤتي أكلها في جميع الأنفاس من لطائف العبودية وعرفان أنوار الربوبية، وقال بعضهم: الكلمة الطيبة النفس الطيبة أصلها ثابت بالاطمئنان وثبات الاعتقاد بالبرهان وفرعها في سماء الروح تؤتي أكلها من ثمرات المعارف والحكم والحقائق وكل وقت بتسهيله تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجتثت مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] إشارة إلى كلمة الكفر أو النفس الخبيثة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت في الحياة الدنيا وَفِى الآخرة} قال الصادق رضي الله تعالى عنه: يثبتهم في الحياة الدنيا على الإيمان وفي الآخرة على صدق جواب الرحمن، وجعل بعضهم القول الثابت قوله سبحانه وحكمه الأزلي أي يثبتهم على ما فيه تبجيلهم وتوقيرهم في الدارين حيث حكم بذلك في الأزل وحكمه سبحاه الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل {وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: 27] في الحياتين لسوء استعدادهم {الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله} من الهداية الأصلية والنور الفطري {كُفْرًا} احتجابًا وضلالًا {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ} من تابعهم واقتدى بهم في ذلك {دَارَ البوار} [إبراهيم: 28] الهلاك والحرمان {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} من متاع الدنيا ومشتهياتها التي يحبونها كحب الله سبحانه: {لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} [إبراهيم: 30] كل من نظر إلى ذلك والتفت إليه {الله الذي خَلَقَ السموات} أي سموات الأرواح {والأرض} أي أرض الأجساد {وَأَنزَلَ مِنَ السماء} أي سماء عالم القدس {مَاء} وهو ماء العلم {فَأَخْرَجَ بِهِ} من أرض النفس {مِنَ الثمرات} وهي ثمرات الحكم والفضائل {رِزْقًا لَّكُمْ} في تقوى القلب بها {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} أي فلك العقول: {لِتَجْرِىَ في البحر} أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه.{وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} [إبراهيم: 32] أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس} شمس الروح {والقمر} قمر القلب {دَائِبَينَ} في السير بالمكاشفة والمشاهدة {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس} ليل ظلمة صفات النفس {والنهار} [إبراهيم: 33] نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة {وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} بلسان الاستعداد فإن المسؤول بذلك لا يمنع {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله} السابقة واللاحقة {لاَ تُحْصُوهَا} لعدم تناهيها {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} ينقص حق الله تعالى أو حق نفسه بإبطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء {كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] لتلك النعم التي لا تحصى لغفلته عن المنعم عليه بها، وقيل: إن الإنسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى، كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية. اهـ. .تفسير الآيات (35- 37): قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما انقضى المأمور به من القول لكافر النعمة وشاكرها وسبب ذلك والدليل عليه، وبان أنه خالق الموجودات كلها وربها، فلا يصح أصلًا أن يكون شيء منها شريكًا.أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يذكرهم بأيام الله عند أبيهم إبراهيم عليه السلام للدلالة على تبديلهم النعمة ظلمًا منهم وكفرًا، في أسلوب دال على البعث، مشير إلى وجوب براءتهم من الأصنام حيث كان محط حالهم فيها تقليد الآباء وهو أعظم آبائهم، وإلى ما سنه لهم من إقامتهم الصلاة وشكرهم لنعمه بالانفاق وغيره، فقال ناعيًا عليهم- مع المخالفة لصريح العقل وقاطع النقل عقوق أبيهم الأعظم، عطفًا على {قل لعبادي الذين آمنوا} أو على {وإذ قال موسى لقومه}: {وإذ} أي واذكر لهم مذكرًا بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب} أي أيها المحسن إليّ بإجابة دعائي في جعل القفر الذي وضعت به ولدي بلدًا عظيمًا.ولما كان السياق لإخراج الرسل من محالهم، وكان ذلك مفهمًا لأن المحل الذي يقع الإخراج منه بلد يسكن فيه، واتبعه سبحانه بأن المتعرضين بدلوا نعمة الله- بما أسكن فيه من الأمن بعد جعله له بلدًا- بما أحدثوا فيه من الإخافة لخير أهله، ومن الإنذار لمن أنعم عليهم بكل ما فيه من الخير، كان الأنسب تعريفه فقال: {اجعل هذا البلد} أي الذي يريدون إخراج الرسول منه {آمنًا} أي ذا أمن بأمان أهله، وكأن هذا الدعاء صدر منه بعد أن سكن الناس مكة وصارت مدينة، والذي في البقرة كان حيث وضع ابنه مع أمه وهي خالية عن ساكن، فدعا أن يجعلها الله بلدًا، وأن يجعلها بعد ذلك موصوفة بالأمن، وهو سكون النفس إلى زوال الضر.ولما دعا بالأمن من فساد الأموال والأبدان، أتبعه بالدعاء بالأمن من فساد الأديان، فقال: {واجنبني} أي اصرفني {وبني} أي لصلبي، وأسقط البنات إشارة إلى الاستقلال، وإنما هن تابعات دائمًا {أن نعبد} أي عبادة مستمرة تكون موجبة للنار {الأصنام} أي اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها، والصنم: المنحوت على خلقة البشر، وما كان منحوتًا على غير خلقة البشر فهو وثن- قاله الطبري عن مجاهد؛ تم بين زيادة الاهتمام بأمر الأصنام بإعادة النداء، وأسقط الأداة- زيادة في التملق بكونه من أهل القرب والانقطاع إليه سبحانه معللًا لما قبله- في قوله: {رب} بإفراد المضاف إليه ليكون الكلام الواحد على نظام واحد {إنهن أضللن} إسناد مجازي علاقته السببية {كثيرًا من الناس فمن} أي فتسبب عن بغضي لهن أن أقول: من {تبعني} من جميع الناس في تجنبها {فإنه مني} أي من حزبي لكونه على طريقتي وديني، فأتني ما وعدتني فيه من الفوز {ومن عصاني} فضل بها فقد استحق النار، فإن عذبته فهو عبادك، وإن غفرت له فأنت لذلك، لأن لك أن تفعل ما تشاء {فإنك غفور} أي بليغ الستر {رحيم} أي بليغ الإكرام بعد ستر الذنوب؛ وأكد للإعلام بزيادة رغبته في العفو لأنه لا ينقص به شيء من عزته سبحانه ولا حكمته- كما أشار إليه دعاء عيسى عليه السلام في المائدة.ولما دعا بدرء المفاسد الناشئة من من نوعي الإنسان والشيطان بأمن البلد وإيمانه ذكر السبب الحامل له على تخصيصه بذلك مستجلبًا للمصالح، فقال: {ربنا} أي يا رب وربَّ من قضيت أنه يتبعني بتربيتك لنا أحسن تربية {إني أسكنت} وكأن الله سبحانه كان قد أخبره أنه يكثر نسله حتى يكونوا كالنجوم، وذلك بعد البشارة بإسحاق عليه السلام فقال: {من ذريتي} وساقه مؤكدًا تنبيهًا على أنه- لكونه على وجه لا يسمح به أحد- لا يكاد يصدق، وللإعلام بأنه راغب فيه {بواد} هو مكة المشرفة لكونها في فضاء منخفض بين جبال تجري به السيول {غير ذي زرع}.ولما نفى عنه الرفد الدنيوي، أثبت له الأخروي، إشارة إلى أن الدارين ضرتان لا تجتمعان، وكأن هذا الدعاء كان بعد بنائه البيت- كما تقدمت الإشارة إليه أيضًا بتعريف البلد، فقال: {عند بيتك المحرم} أي الذي حرمت التعرض إليه ومنعته بالهيبة فلم يملكه أحد سواك، وجُعل له حريم يأمن فيه الوحش والطير؛ والكسنى: اتخاذ مأوى يسكن إليه متى شاء، والوادي: سفح الجبل العظيم، ومنه قيل للأنهار: أودية، لأن حافاتها كالجبال لها، والزرع: نبات ينفرش من غير ساق؛ ثم بين غرضه من إسكانهم هناك فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {ليقيموا الصلاة} ما أسكنتهم في هذا الوادي الموصوف إلا لهذا الغرض المنافي لعبادة غيرك، ولأن أولى الناس بإقامتها حاضرو البيت المتوجه بها إليه.ولما كان اشتغالهم بالعبادة وكونهم في ذلك الوادي أمرين بعيدين عن أسباب المعاش، تسبب عنه قوله: {فاجعل أفئدة} أي قلوبًا محترقة بالأشواق {من الناس} أي من أفئدة الذين هم أهل للاضطراب، بكون احتراقها بالشوق مانعًا من اضطرابها {تهوي} أي تقصدهم فتسرع نحوهم برغبة وشوق إسراع من ينزل من حالق؛ وزاد المعنى وضوحًا وأكده بحرف الغاية الدال على بعد لأن الشيء كلما بعد مدى مرماه اشتد وقعه فقال: {إليهم} ولما دعا لهم بالدين، دعا لهم بالرزق المتضمن للدعاء لجيرانهم فقال: {وارزقهم} أي على يد من يهوي إليهم {من الثمرات} أي التي أنبتها في بلادهم؛ وبين العلة الصالحة بقوله: {لعلهم يشكرون} أي ليكون حالهم حال من يرجى شكرهم لما يرون من نعمك الخارقة للعوائد في ذلك الموضع البعيد عن الفضل لولا عنايتك فيشتغلوا بعبادتك لإغنائك لهم وإحسانك إليهم، وقد أجاب الله دعوته؛ فالآية لتذكير قريش بهذه النعم الجليلة عليهم ببركة أبيهم الأعظم الذي نهى عن عبادة الأوثان. اهـ.
|